قصة قصيرة .......الجدار
- بقلم : هشام زربان
تفحص بعينين حانقتين الجدار الفاصل بين المنطقتين الغربية و الشرقية ، ندت منه ابتسامة ساخرة ، و عاد يتفرس في جيوشه المتسخة ، آلاف السكان من الجهة الغربية سئموا صوت التفرقة و التمييز فانتفضوا وراء قائدهم الشاب يدكون الجدار بالمعاول و الفؤوس ،في انتظار موعد وصول الجرافات ، سقط القتلى بعد إطلاق الشرطة الرصاص مرات عديدة ، لكن العزيمة كانت أقوى من البنادق و قطع الخرطوش،فهاجم المحتجون مراكز الشرطة و استولو عليها و طردوا آخر أفراد الشرطة من منطقتهم بعدما جردوهم من شاراتهم و ازيائهم الاستعلائية ،كانت الأخبار تتناسل إليهم عن أفواج من الجنود و الشرطة قادمين لقمع هذه الثورة المفاجئة.
كانت المدينة الخضراء مقسمة إلى منطقتين بعد الطاعون الذي ضربها ، منطقة تعيش في الرفاهية المطلقة حيث المستشفيات الراقية و الأسواق الكبيرة و البنوك الفاحشة و القصور المرصعة و العيش الرغيد ، و منطقة الوباء القاتلة حيث استفحل الفقر و الامراض و الأوبئة ، و حتى تصبح فصول التمييز اكثر عنصرية فقد فصل بين المنطقتين بجدار لا باب له و لا منفذ ، جدار من الإسمنت المسلح ، بسمك يقارب مترا و ارتفاع ثمانية أمتار ، علته أسلاك شائكة مكهربة ،تقتل كل مقترب و كل حالم بالعبور ..هكذا أمن الأغنياء منطقتهم على أشلاء المقهورين الراضخين وراء جدار العار في انتظار الموت.
عاشت الأجيال بهذا التقسيم سنوات طويلة ، انتهت سنوات الطاعون و انتهى المرض حاصدا الموتى بالالاف ، لكن الجدار لم ينتهي بل استمر الفصل بين المنطقتين قائما ، انطلقت محاولات كثيرة لهدمه و كتبت طلبات كثيرة و قدمت عرائض بلا حصر لكنها كانت تعود خائبة فالدولة لا تمنع أحدا من الرحيل من المنطقة الغربية شريطة ان لا يدخل المنطقة الشرقية ، كما انها تؤمن حاجيات الفقراء من اكل و شرب و ترسل كل شهر شاحنات من المؤن و الالبسة ، هكذا كان تجيب الجهات التي تصلها المراسلات ، لكنها أجوبة كاذبة في كنفها، فالحقيقة ان أهالي المنطقة الغربية لا زالو تحت طائلة الحجر رغم انقضاء المرض و اندثاره ، حظر من الحياة و الاختلاط ، الفضائح السياسية تناسلت كالنمل هناك و المنطقة جبل من الأسرار التي يجب ان لا تنفجر و إلا فجرت معها وجوها عديدة و ربما انهار الهرم بأكمله ،و لولا كاميرات الهواتف الغادرة لأبادت الجيوش هذه القلة عن آخرها .
كانت ملامح "عمر" ذلك اليوم توحي بأن لحظة الحسم حانت ، يعرف جيدا ان جحافل القمع قادمة لا محالة ، و أن أفئدة الأغنياء تتراقص خوفا من جيوش القذارة خلف الجدار ، القذارة نفسها التي عشقها "عمر " و فضلها على حياة النعيم التي وجد نفسه فيها منذ الثانية الاولى على هذه الأرض ،ابوه "الاستاذ سعد البيه "المحامي المرموق و أحد كبار المنطقة الشرقية و امه "كريمة " الطبيبة الثائرة التي رحلت صوب المنطقة الغربية ذات يوم دون سابق إنذار ، الامر الذي أثار حنق ابنها و زوجها معا ، اعتبروها مجنونة متمردة تسعى للانتحار ، و اعتبرها الزوج خائنة هاربة ، هكذا تربى و هكذا فكر و على هذا ترعرع ، حتى وصل سن السادسة عشر ، حين وصله بريد الكتروني من مجهول تصفحه باستغراب فهاله ما رآه من بؤس الفقراء و ضعفهم و جرائم الدولة في حقهم ، شرائط توثق لموتى يئنون من هول الجوع و أنهار من المخلفات في الشوارع و الأزقة ، المدارس القديمة غصت بالمرضى و العجزة ، كل هذا و حياة الترف على بعد أمتار فقط ، لا فيصل يمنعها سوى جدار بناه إنسان من نفس الجلدة و الدين و اللغة و الوطن ...و ما الوطن ؟؟ هواء نتنفسه متسخا و يتنفسونه نقيا ،خيرات ينعمون بها و تصلنا مخلفاتها أنهارا قذرة تسبح فوقها أسراب الذباب و الحشرات ...الوطن أكذوبة لا غير ...كانت الصور صادمة للغاية ،تحركت إنسانية الفتى و تساءل من قد يرسل هذا الملف إليه بحث عن المرسل فبدت صورة مصغرة له كبرها ففاجئته طلعة أمه البهية ، وجهها المبتسم دوما صار أكثر نحافة ، لكن السعادة تكسو محياها كما لم تكسوها من قبل .
كان ذلك الملف كفيلا ليصبح الفتى متعاطفا كبيرا مع اهالي المنطقة الغربية و بدأ منذ ذلك اليوم في تمرير اكياس المعونة عبر الانفاف ،حتى جاء اليوم الذي قرر أن يتسلل و يرحل هو الآخر ، جن جنون أبيه و أربد و عربد و تدخل لدى أصدقاءه في سلك الشرطة من اجل إعادة الهاربين لكن قوة أهالي المنطقة الغربية كانت أكبر ، حمت المنشقين بقوة و تلاحم عادت على إثرها قوات الشرطة متوجسة من مواجهة غير محمودة العواقب ، سلم الأب بالواقع و نفض كفيه مستسلما .
اليوم معركة الحسم ، الموت يبدو قريبا ، قريبا للغاية ، خطبته التي ألقاها على مسامع جيشه الفقير كانت واضحة " سنهجم لا لنغنم و لا لننتصر ، سنهجم كي نسمع صوتنا و نكبر على أطلال قصورهم و ليعلم العالم أننا لا نختلف عنهم ، و اننا نستحق العيش أيضا " ، يفكر الآن في التراجع ، لكن ملامح جنوده تثنيه عن هذه الخواطر ، لقد بلغ منعرج الحسم ، صحيح انه لن ينتصر و كيف ينتصر على الجحافل القادمة ؟؟ لكن أخبار جيشه ستكتسح نشرات الظهر و المساء و مقدمات الصحف و عناوينها ، سينكشف اللثام و بقانون غابهم سيهدم الجدار ، و سيعيش من بقي من هذه الملحمة عيشة كريمة .
تبادل نظرة مع قائد فرقة الهدم ، اومأ برأسه فانطلقت الجرافات تدك الجدار دكا ، و ما هي إلا ساعات حتى حفرت ثغرة بمساحة كافية لولوج الجميع ، انطلقت جحافل الفقراء تجري نحو عالم الرفاه غير مصدقة بأن الثورة بدأت للتو ، تعرضتها رصاصات شرطة المنطقة لكنها سرعان ما تراجعت امام هول العدد و تنظيمه ، انطلقت الحبال في تكبيل كل من تصادفه ، لحظات الممانعة و المقاومة كانت نادرة للغاية و سرعان ما تم السيطرة على المنطقة بأكملها، اصطفت الجنود الثائرة في ساحة حفلات المجون التي كان يرفل فيها المرموقون قبل اليوم و انتظروا القائد المنشق عن هذا النعيم،ظهر بعد لحظات تعلو وجهه بسمة تزيد قسمات وجهه وسامة و نضارة ، ارتقبوا كلماته و جمله الحماسية النادرة ، لكنه أطرق رأسه و قال بصوت منكسر بالكاد سمعته الصفوف الامامية : الجنود عند مدخل المدينة يطالبوننا بالاستسلام ، سرت كلماته بين صفوف الثائرين ، نعم ، لقد كانت لحظة منتظرة لكنها لهولها تبدو مفاجئة ، قاتلة هادمة لكل أمل ، تعالت أصوات التكبير من فم إلى آخر حتى صارت صوتا واحدا مرتلا مرتبا منغما بالحماسة و الشجاعة ، رفع رأسه و الدموع تملأ عينيه ، و تمتم بفرح غامر "الموت إذن " ...ارتفع صوت التكبير و خالطته بعد لحظات قليلة أصوات الرصاص تخترق الصدور ، دخل الجيش !! انطلقت الدماء و سقطت الجثث الواحدة فوق الاخرى ، طائرات الصحافة الأجنبية تصور المشهد غير مصدقة هذا السبق التاريخي في رصد إبادة لم يسبق توثيق مثلها في تاريخ الصحافة ، سقطت الأجساد مع خرقها البالية ، تكدست بكرامة و شجاعة نادرة ، بعضها كان يبتسم و الروح تفارقه كأنه يرى جدار العار ذاك يسقط ...بين الجثث وجد القائد و قد اخترقت صدرة عشرات الرصاصات ، انتشلته ايادي الجنود و سحل كدليل على نجاح المهمة.
.المهمة الوحيدة التي نجحت حقا هي "الثورة من أجل الكرامة " ...هدم جدار العار بعد ذلك ..بقي نفس الساسة ...ماتوا بعد سنوات ..موتة عادية على فراشهم ..لا احد.حزن على موتهم ...في حين سمي كل شارع و زقاق بعد سنوات باسم جنود ثورة القذارة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق